رغم حتميّة الموت، إلّا أنّنا كبشر نتوقَّع أن نهرُم ونشيخ مُحاطين بمن نُحبُّ من أقارب وأصدقاء. فنتندَّر غالبًا -ونضحك كثيرًا- حول ما ستؤول بنا الحال حين نصبح فرقةً من المُتقاعِدين المحيَّدين عن شؤون الدنيا، يَنظر إلينا أحفادنا بمزيجٍ من العطف والخفّة ولا يُقيمون وزنًا لمِراسنا الصعب الذي لطالما قاد مغامراتنا القاسية في السياسة والحياة.
أمّا حين يَخطف القتلُ أحدًا منّا على حين غرّة، ويهتزُّ اطمئنانا لسيرورة الأمور والنهايات، عندها يمثلُ الخوف من الموت بقوّة جارفة.
ولكنّ بعض الأصدقاء ورفاق الدرب لا يموتون، حركتُهم ونشاطُهم ووجودُهم المستمرّ في كلّ التفاصيل رغمَ غيابهم، يُكثِّف حياتَهم في طبقاتٍ لا مُتناهِيَة ويُحيلُ وُجودَهم في حياتِنا ويومياتنا غضًّا، فيتحوّل رحيلُهم المباغِتُ الى ثُقب أسوَدَ يمتصُّ كلَّ شعور بالأمان ويُفقد التوازن لفترة مديدة نَفقد فيها القدرةَ على التعبير عمّا يَدور فينا. هكذا كان وقعُ اغتِيال لقمان سليم عليّ.
شهدتُ الكثير من الاغتِيالات، وبعضَها لأشخاصٍ عرفتُهم عن قرب، كالشهيدَين سمير قصير وجبران تويني في جريدةِ «النهار» حيث كنت أعمل. الاغتِيالات التي تطالُ أشخاصًا تعرفهم شخصيًّا يكون وقعُها الأكبر. فكيفَ إذا طالت التصفِيات السياسيّة شخصًا مثلَ لقمان المثيرِ للجدلِ والاختِلاف بمقدار شغفِه بالنقاشِ والبحثِ والنضالِ من دونِ هوادة.
أن يُقتل صديقُك وهو يُمارس حياتَه اليوميّة بتفاصيلِها البسيطة من دونِ أيّ إجراء لحمايتِه الشخصيّة، هو أمرٌ مرعب لمجتمعِ الذين لا أداةَ لهم سوى الكلمةِ الحرّة كوسيلةٍ للنضال الفكريّ والسياسيّ. ذلك أنَّ هذا الاغتيالَ هو قتلٌ لطمأنينةِ يومِنا وروتين حياتِنا الخالي من أيّ حسبانٍ لقاتلٍ يتربّص فعلًا بمن هو أعزلُ إلّا من رأيِه.
أتنبَّهُ فجأةً الى المأزقِ الفعليّ في ثنائيّة القاتل والقتيل. مَن يخاف مِنْ مَن؟ القاتلُ أم القتيل؟ والسؤالُ الذي يَطغى: ممَّ يَخاف القاتلُ المزهوُّ بقوّتِه، الممجِّد لكاتِم الصوت، المتفوِّقِ في استخدامِ العنفِ أينَما ومتى شاء، القاتلُ الذي يَمتلكُ كلّ مفاصلِ القوّة اللازمة فتَتماهى مصلحتُه الضيِّقة مع مصلحةِ البلاد التي يتحكَّم فيها أصلًا؟ ممَّ يَخاف القاتلُ الذي يأمر وينهي فيُطاعُ ويَعبر بالناس شرقًا حيث وهمُ النعيم الموعود؟
وتَغيب عن ذهنِ لقمان، كغَيره من المقاوِمين للحفاظِ على حيويّة المجتمع بوجهِ كلِّ من يُريد أن يُجفِّفَ قدراته، أنَّ ثمّة من لا يَغفر الرأيّ الآخر، رغم أنَّ هذا الرأيَ المغايِرَ لا حَوْلَ إقليمي له ولا قوَّة مسلحة.
لقمان سليم لم يُقتلْ لأنّه هدفٌ سهلٌ بلا حِماية. لم يتمَّ انتقاؤه عشوائيًّا. علَّمنا تاريخُ الاغتِيال في لبنان أنَّ مدبِّري هذه الجرائمِ يختارون «واسطة العقد» على حدِّ وصف ابن الرومي، كي يفي الاغتيالُ غايةً مضافة، ألا وهي بثُّ الرعب في نفوس مَن يسلكون مسلكَ القتيل. ولم يُقتل لأنّه مثقَّف وكاتب وناشر. قُتِل لقمان لأنّه مفكِّر شجاعٌ حول معرفتِه الى سلاحٍ يتصدّى به للتسليم السهل للسرديّة السائدةِ حول التاريخِ والذاكرة.
كان لقمان سندًا وحاضنًا لكلّ من التقى معهم على نفس النهج، دون أن يعرفَهم شخصيًّا. فبالنسبة إليه، نحن ننتمي للأفكار والمبادئ أوّلًا... حوّل لقمان دارته الى «أمم» ضمَّت مشارب ومذاهب مختلفة متباينة من البشر والسياقات الثقافيّة والسياسيّة تشاركت في قيَمها الإنسانيّة، بما تعدّى حدود لبنان الى مدًى أرحبَ حيث الانتِماء قضيّةٌ وليس جنسيّةٌ أو قوميّةٌ أو طائفة. لذلك قتل لقمان، وليس لأنّه لقمةٌ سائغة لمُحترفي الأمن والقتل. بهذا المعنى، أدّى فعلُ الاغتيال غايتَه في ترهيب المقاومين لأحاديّة السيطرة والحزب الحاكم في البلد والطائفة.
في لبنان، لم يضرب اغتيالٌ عميقًا على وَتر الخوفِ كما فعلَ اغتِيال لقمان سليم. فهو الأوَّل بعد الحرب الأهليّة الذي يستهدف معارضًا شيعيًّا يَسكن ويَنشط في منطقةِ نفوذِ حزبٍ قابضٍ على القرارَين السياسيّ والأمنيّ في البلد. وهذا الحزبُ لطالَما استَخدم سكنَ ونشاطَ معارضين شيعة في مناطق نفوذِه لتسويقِ صورة ليبراليّة في تقبُّل المعارضين وعدم التعرُّض لهم.
ذلك أنَّ هذا الاغتِيال شكّل نقطةَ تحوُّل ورسالةَ ترهيبٍ لهؤلاء بأنَّ زمنَ السماح انتهى ولا قبولَ لأيِّ صوتٍ معارضٍ للسرديّة الرسميّة عن الطائفةِ والبلد كما يَراها الولي الفقيه.
وانعكس ذلكَ على مجموعةٍ كبيرة من الناشطين السياسيّين الذين وَجدوا أنفسَهم تحتَ ضغطِ تهديدٍ مباشر يطالُ سمعتَهم وعائلاتِهم وحياتَهم، خصوصًا أنَّ رسالةَ القاتلِ لم تكن في الاغتِيال بحدِّ ذاتِه وحسب، بل بتنفيذه على طريقةِ المافيا كما وصفَها لقمان نفسُه: خطفٌ وإعدام.
خَفتت أصواتُ أصحابِ الرأي والناشطين اللبنانيّين عمومًا، والشيعة منهم على وجه خاص، فابتعدوا في غالبيَّتهم عن مواقفَ فرديّةٍ عاليةِ السقف وإن كانوا قد نشطوا من قبل ودفعوا قدمًا العديد من المجموعات السياسية التي انبثقت عن ثورة ١٧ تشرين/ أكتوبر، وانضووا ضمنَها من أجل إدانة الاغتِيال وتسميَة القاتل، وصولًا الى المطالبة بتحقيق دولي.
بعد لقمان، أدرك هؤلاء أن الانضواءَ تحتَ توقيع المجموعة السياسيّة أفضلُ من المجاهرة بالرأي فرادةً في بيئةٍ مشرَّعة على القتل ويَبلغ فيها الإفلات من العقاب حدًّا يكاد القاتل فيها أن يُجاهِر بفِعلَته.
لطالما تساءلت: يا ترى أيُّ حديث دارَ بين لقمان والقتلة حين اختُطف؟ وما كان ردُّ فعلِه حين أدرك أنّه يعيش لحظاتِه الأخيرة قبل إعدامه؟ هل قاوَم أو شتم؟ أم ربّما حاول- كما عادته- أن يجرَّ القاتلَ الى نقاش؟ سيناريوهات مُرعِبة تعيدُنا الى الظلاميّة التي اجتاحَت الطائفة في ثمانينات القرن الماضي حين تمَّت تصفيَةُ مفكِّرين وقادةِ رأيٍ وسياسيّين تمهيدًا للدخول في العصر الإيراني. لكنّي في لحظة ما، أكادُ أجزم أنّ لقمان كانَ يبتسم هادئا بوجهِ قاتليه ويهزُّ برأسه هازئا بهم وبخوفِهم وبالموتِ في آنٍ معا. ولربّما راق له لوَمضة بسخريتِه المعهودة، أن يكونَ «مواطنًا لبنانيًّا يَحملُ على محمَل الجدِّ رتبتَه كمواطن» (كما عرّف نفسه مرّة في تقريرٍ تلفزيونيّ) استَطاع أن يُقلِق وجودَ أولئك الذين لا يزدهرون إلّا في العتمة.
فلقمان الذي طالَما شاهَد بأمِّ عينَيه أكثرَ من مرّة أولئك الذين لاحقوه في مقاهي بيروت ليجلسوا على طاوِلةٍ مجاوِرة يرمقونه فقط للقول «نحن هنا»، كان يَضحك مستهزئًا. وربّما هذا ما فعلَه في اللحظات الأخيرة، لكن من دونِ سيجارةٍ في يده، كفعل حرِّية أخير.
خوف القاتل هو «خوف الغزاة من الذكريات... وخوف الطغاة من الأغنيات» كما أخبرنا قبل ذلك بسنوات الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدته المعنونة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
وماذا كان يَحترف لقمان أكثرَ من ذلك؟ نَبشُ الذاكرة وأرشفتُها ليحوّلها الى معرفة وبالتالي إلى سلاحٍ بيَد المفكِّرين الأحرار الذين هم بطبيعة الحال مقاتلون من أجل الحريّة ورفض الخضوع لمن يريد فرضَ سرديّة «لم يكن قبلنا بدء».