تبحث الورقة في الاغتيال السياسي من منظورَين. فهي تتطرَّق في الجزء الأوَّل إلى القصور المعرفيّ المحيط بالموضوع والذي يحصر الدراسات المتوفِّرة بالتوثيق الزمني أو بالمسارات القضائية، وتطرح إشكالية الفجوة بين القانوني والثقافي والمعرفي في إعداد أدوات التحليل والردع. ويضيء القسم الثاني، من خلال اغتيال ثلاث شخصيات سورية كردية، على دوافعَ تجعل من شخصيّة عامَّة هدفًا دون غيرها، كما يُضيء على الالتِباس، لا بل التناقض، بين حركات التحرُّر والتفاعُلات الديمقراطيّة داخل المجتمعات والأحزاب السياسية.
تُظهر عملية الاغتيال السياسي التفاعلات بين آليّات السلطة والجريمة، تتحوَّل فيها هذه الأخيرة إلى أداة حكم بامتياز، وتُدمغُ فيها تداخلا مضلِّلًا بين ما هو جنائي وما هو سياسي، متسبِّبة بإشكالية قانونية لم يستدركها الفكر الجزائي في نظرته الإجرائية لها النوع من الجريمة وقصاصها. وذلك لأن معاملة الاغتيال، في إطاره الراهن كجريمة قتل عمد، تحجب جزءًا من طبيعته الجرمية غير القابلة للاختزال إلى واقعة زهق الروح. فما يتمُّ استهدافه أصلاً هو ما تجسّده الضحية من خصومة سياسية تستدعي تدرُّجًا في الترهيب، وفقًا لمكانة الضحية في النظام السياسيّ. فالتبعات القضائيّة المتباينة المترتِّبة على الاغتيال تُظهر أن العدالة لا يمكنها الفكاك من الأرضية السياسية لهذه الجريمة.
أفرز هذا الأمر عبر التاريخ تراتبيّة مُجحفة بحقّ ضحايا الاغتيال السياسيّ، تُختزَل بعضها بتكييفٍ قانوني كجريمة انتهاك لجسد الفرد، بينما ترقى باغتيالاتٍ أخرى إلى مستوى انتهاك لجسد الأمّة برمَّتها.
ثمّة تيار قانوني يطالب بتوحيد معايير العدالة ودمج الاغتيال السياسي على غرار الإرهاب في فئة القتل العمد بناءً على الواقعة المادية لزهق الروح. وذلك تجنّبًا لعودة لاهوت قضائي من القرون الوسطى يصنِّف ضحايا الاغتيال وفقًا لمكانتهم، على غرار ما جرى في الدول الأوربية خلال القرن الـثامن عشر مع موجة الاغتيالات التي طالت ملوكها، فنشأت فكرة كانتوروويتز حول «ازدواجية جسد الملك»،[1] وكيف أنَّ المساس به يختلف عن اغتيال شخصٍ آخر قد تكون لديه أفكار سياسية مغايرة لكنه لا يتسنّم أيَّ منصب سياديٍّ في الدولة. فمثلاً، انتهت عملية اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانسوا فرديناند الذي قتله صربيٌّ في سراييفو 1914 باندلاع الحرب العالمية الأولى. وأفضت موجة الاغتيالات في لبنان إلى إنشاء محكمةٍ دولية خاصة في عام 2005، لتكون بذلك أولى المحاكم الدولية المؤسَّسة لغرض النظر في الاغتيال بناءً على قاعدةٍ عرفيّة دوليّة هي «الإرهاب في زمن السلم»،[2] إذ إنَّ القانون الدولي لم يكن مستعدًّا بعد لمواجهة تلك الجريمة بالقوانين الدولية. فجميع المحاكم الدولية، منذ نورمبرغ 1945 وطوكيو 1946 العسكريتين، وصولاً إلى بداية التسعينيات وتأسيس محاكم مخصّصة ليوغسلافيا وروندا وسيراليون، تأسَّست بغرض النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ضمن سياق العدالة الانتقالية.[3] في حين تُحال جرائم الاغتيال الأخرى إلى الأجهزة القضائية الوطنية في الأنظمة المستبِدّة، لتسقط في غياهب النسيان، وتنتهي ملفّات كثيرة لضحايا الاغتيال في دولٍ كسوريا والعراق إلى أضابير منسيّة في الركام البيروقراطي.
كيف يمكن إذًا للفقه القانوني أن ينظر في جريمة الاغتيال؟ فاللجوء إلى الجنائية الدولية مشوب بعيوب المماطلة والكلفة الباهظة. مثلاً تقدمت الحكومة اللبنانية إلى الأمم المتحدة بطلبها لتأسيس محكمةٍ خاصة، فصدر قرار مجلس الأمن رقم 1757 لعام 2007، وفي عام 2020 توصَّلت المحكمة إلى إدانة شخصٍ واحد فقط وتبرئة آخرَين، لتُدينَهما غيابيًّا في عام 2022. وقد تجاوزت كلفة المحكمة أكثر من مليار دولار دفع منها لبنان سنويًّا 40 مليونًا، ناهيك عن هول الضغوطات السياسيّة التي تخلّلت مجريات التحقيق والمقاضاة.
وما زال قانون «ماغنيتسكي الدولي للمساءلة بشأن حقوق الإنسان»[4] الأمريكيّ محدودَ التأثير، وقد صدر في نسختَين: الأولى سنة 2012، أعلن فيها الرئيس أوباما فرض قيود على التأشيرة ضدَّ بعض المسؤولين الروس المتَّهمين بضلوعهم في مقتل ماغنيتسكي، وكان عددهم 18 مسؤولاً. ثمَّ أصدر الكونغرس الأمريكي سنة 2016 النسخة الثانية منه، والتي تشمل إمكانية معاقبة مسؤولين وأشخاص متورِّطين في عمليات انتهاك جسيمة لحقوق الإنسان حول العالم، لكنه مازال محدود الأثر، وقائمته لا تتجاوز الـ 60 شخصًا حول العالم.
في المقابل، وفي بيئةٍ استبداديّة، يتمُّ تجريم المعارضة العلنيَّة باعتبارها جناية سياسيّة. ونظرًا لغياب الفصل الفعليّ بين السلطات، يتحوَّل القانون العام والجنائيّ إلى مجرّد كلمات، لأسبابٍ كثيرة من ضمنها عجز القضاء أمام القوى السياسية والميلشيويّة المنضويَة تحت لواء أجهزة أمن الدولة، أو نكون أمام حالة تفريغ للدولة من القوانين كما هو الحال في سوريا، حيث تلجأ الدولة إلى الاغتيال كإجراءٍ إداريّ في مسار تصفيتها للمشتبَه بتحوُّله إلى خصمٍ سياسيّ.
يُضاف إلى ما تقدّم عيوب تحليليّة في علم الإجرام لتحديد شخصية الجاني في عملية الاغتيال، واضطرار القانون للالتزام بالشرط المادّي لتحديد الضحيّة، رغم أن مفهوم «الضرر» يتيح التوسّع للإلحاف بالجرم في كلِّيته. فالاغتيال بطبيعته يتجاوز مادِّيَّة القتل، بانتهاكه لكلّ ما كانت الضحية تمثِّله كجسدٍ وسيط للحقّ الجماعي في رفض الخنوع السياسي.
في المقابل، ينطوي الاغتيال على قاتلٍ فعليّ وآخر مستَتِر، ومعهم المحرِّضون والمدبِّرون للجريمة. هكذا يكون المجرم الحقيقيّ سلسلة هرميّة من المجرمين المتحصّنين في الحقل السياسيّ وعبر صراعات السلطة حيث يُقيم الآمرُ بالقتل. إذ يتوجَّب شملهم معًا بالقصاص العقابيّ ذاته للحؤول دون تحويل محاكمات الاغتيال إلى مسرحٍ للظل، تُطلَق فيه سهام العدالة على ظلال المجرم الفعليّ، ويُقدَّم للقضاء أكباشٌ مُعدّة للفداء لا يترتَّب على التضحية بها أيّة خسارة.
ارتبط مفهوم الاغتيال تنظيميًّا بجماعة الدعوة الجديدة الإسماعيليّة المعروفة باسم «الحشّاشين» في القرن الـحادي عشر، والتي تحصّنت في قلعة آلموت (عشّ النسر) في إيران. تحوَّلت هذه الجماعة إلى تعبير قاموسيٍّ مرادف لكلمة القاتل في عدّة لغاتٍ أوربيّة، وظهر اسمُها في النشيد الرابع عشر من الجحيم لدانتي (la perfido assassinto أي الحشّاش الخائن)، ونقلتها مصادر مختلفة قبل الرحالة ماركو بولو الذي زار قلعة آلموت وسرد عنها ما فهمه عنها عبر الترجمات.[5] فتعمّمت وترسّخت أسطورة القتَلة الفدائيّين في المخيلة الأوروبية، وترادف القتل في عبارة الاغتيال (assassinate) المستمَدّة من التسمية العربيّة لنبتة الحشيش (hashashin). أو ربّما من الفهم الخاطئ لدى بعض المترجمين حينذاك لكلمة assassin على أنها تشير إلى أتباع الحسن، أي السيّد حسن بن الصباح (1124-1034)، مؤسّس حركة الحشاشين الإسماعيلية النزارية، والذي تأتي الإشارة إليه كتفسير لعمق انثروبولوجيّ يُضفي بصمته الثقيلة على واقع الإجرام اليوم.
لُقِّبَ حسن بن الصباح بـ«شيخ الجبل» وبـ «السيد حسن». كان على إلمام بفلسفة فيثاغورس وبالعلوم الشرعية، وخطيبًا ماكرًا ينوّم مريديه بالعهود والاحتيال على الانفعالات، محوّلاً معمار القلعة إلى تدرّجٍ في المكانة وفقًا للولاء الأعمى. وتوارى في خلوَته التي استمرّت مدة 35 سنة حتى وافته المنية داخل القلعة، وبات حضوره ما فوق الحسي[6] أساسًا لتعويم حضورِه الرمزيّ بالفتك. وكانت صفوَة مريديه نخبة القتلةَ، صدّقوا ما وعدهم «شيخ الجبل» به من ملذّات تُشترى بالولاء المطلق. فتمكّن من تفريغ ذات المريد المهيّأ لتلقّي إيعازات التنظيم وكأنّها تأتيه من داخله، فيُطيع دون أن يفكِّر. وبما أنَّ التنظيم والسيّد كانا واحدًا وبما أن هذا الأخير كان وسيطهم بين الدنيا والآخرة، لم يكن هؤلاء القتلة يأبهون بالعلاقات الإنسانية. فكان نظام الملك -وزير لدى السلاجقة -، وهو صديق السيِّد، من أوّل ضحايا: إذ تعاهد «شيخ الجبل» وصديقاه الشاعر عمر الخيام ونظام الملك على المساندة بمجرَّد أن يتسنّم أحدُهم منصبًا ما، غير أنَّ الوزير خاف من طموح صديقه فجرّده ممّا منحه إيّاه، ليهرب «شيخ الجبل» إلى القاهرة ويعودَ لاحقًا بالرعب المنظّم لحركة الحشاشين.
سنة 1164، تسلَّم قائد آخر قيادة الجماعة، وكان اسمه أيضًا حسن.[7] انتشرت الحركة في بلاد الشام وانتهت كتنظيم على يد المغول، لتتغلغل كركن من أركان السلطة في المنطقة. وأُدمِج القتلُ في استراتيجيّات السلطة في عهد السلاطين العثمانيين الذي ابتكروا قانون «قتل الأخوة» حرصًا على العرش.[8] ثم صدر قانون «القتل سياسة» الذي كانت أولى تطبيقاته قيام السلطان يلدرم بايزيد بقتل شقيقه، ومن ثمَّ قيام السلطان سليمان القانوني بقتل ولديه،[9] استطرادًا للممارسة المنحدرة من «شيخ الجبل» الذي لم يَتوانَ عن قتل أولاده طلبًا للطاعة المطلقة.[10]
يأتي ما تقدّم معطوفًا على ثقافةٍ عامّة لا ترى في الاغتيال عارًا، بل وأحيانًا تُظهر القتلةَ كشهداء. حدث ذلك في مدنٍ سورية رَفعت صورالقاتل الشيشاني (Abdoullakh Anzorof) الذي ذبح المعلِّم الفرنسي صامويل باتي عام 2020، واعتبرته شهيد الأمّة. مرّت هذه الحادثة دون انتباه في ثقافةٍ خرساء أمام مشهدٍ اجتماعيّ في الشرق الأوسط لا يفتأ يكرِّر علاقته الولائيّة بطغاة لا يرون في القتل ضيرًا، كاشفةً بذلك عطبًا معرفيًا في ثقافةٍ لا تَدرس الإجرام ولا تَدخل السجون كمختبرات ميكروسوسيولوجية لإتمام قراءاتنا لمجتمعاتنا.
مثلاً جاء كتاب هادي العلوي «الاغتيال السياسي في الإسلام «بمقدِّمة تشرح نقطتين فحسب: الأولى أنَّ الاغتيال يتعارض مع قيم الفروسية الجاهلية القائمة على نبذ الغدر ونعتِه بشيَم الجبناء؛ والثانية أنَّ الإسلام يُدين الاغتيال شرعًا في الآيَة 38 من سورة الحج،[11] وما أَورده عن أبي داوود قولَه عن الرسول الكريم بأن «الإيمان قَيَّد الفتك، لا يَفتك مؤمن». فيما أتت بقيَّة الكتاب كتوثيق لسجلِّ جرائم الاغتِيال في التاريخ الإسلاميّ، والأمر ذاته يتكرَّر في مؤلّفات أخرى.
يشتغل ما تقدَّم كإكراهٍ تاريخيّ على استعادة الجذر المؤسّس لجريمة الاغتيال، بغاية إظهار المنظومة التي تعتمده كآليّة خصامٍ سياسيّ يُفضي فقط إلى الإرهاب، وتمييزًا لها عن عمليّات اغتيالٍ أخرى تقوم بها المخابرات الدوليّة في صراعاتها الأزليّة، كقانون Patriot Act الأمريكيّ الصادر عام 2011. جاء هذا القانون كاستمراريّة لقراراتٍ سرّية كانت تعتمدها وكالة الاستخبارات الأميركيّة عبر تجنيد قتلة مأجورين لاغتيال من تُصنّفهم أمريكا أعداء لها، من ضمنِهم كاسترو وسلفادور أليَندي، إلى أن وضع الرئيس فورد حظرًا على تنفيذِه عام 1976. ناهيك بدخول الدرونات على خطّ تعويمِ الاغتِيال خارج فترات الحرب، كوسيلةٍ من وسائل تقويض المسارات القضائيّة الطبيعيّة لمحاكمة المتَّهمين. فما يَشغلنا ههنا، هو فقط عمليات الاغتيال التي تقوم بها جهة سياسيّة أو طائفة دينية ضدَّ جهة سياسية أخرى.
أفضت الظروف الجيوسياسية للواقع الكردي الممزّق بين دول تحكمها أنظمة سلطويّة، إلى تبلور النضال الكرديّ في بيئة اعتمد فيها الناشطون العمل السياسيّ السريّ ولجأوا إلى العسكرة. وقد اصطبغت الحركة التحريريّة الكرديّة بالطبيعة السياسيّة للنظم التي ناضلت ضدَّها. فبات المناضل السياسيّ الكرديّ معرَّضا لاحتمال التصفيَة الغامضة أو العلنيّة بذريعة حماية الثورة. ونظرًا لوجود الكرد في دوَل مفرغة من حكم القانون، يُعزى السبب الأساسيّ للاغتيال الشخصيات الكرديّة إلى قدرتها على التأثير في التوجُّهات السياسيّة للحركات التي استحوَذت على الخطاب التحرّري. ضمن هذه المعطيات، يصعب الوصول إلى معلومات وافية متعلِّقة حول تصفية الشخصيّات القياديّة داخل الحركة الكرديّة ذاتها، حيث يسود صمت مستدام خشية التعرُّض للمآل نفسه. لذا آثرنا اللجوء إلى قراءة نوعيّة، من خلال اختيار ثلاث شخصيّات سوريّة كرديّة تمّ اغتيالها، وهي كامل شاهين، ومعشوق الخزنوي ومشعل تمّو.
اغتيل كمال شاهين فجر 17 شباط /فبراير 2005، في منطقة باينجان التابعة لمدينة السليمانية في كردستان العراق. وقعت الجريمة في مقرّ حزب الوفاق الذي أسّسه شاهين في 11/6/ 2004، وكان برفقة ثلّة من أصدقائه الذين انشقّوا معه عن حزب العمّال الكردستانيّ. شارك شاهين بدايةً في تأسيس حزب الاتحاد الديموقراطي المعروف بـ PYD والذي يحكم حاليًا مناطق الإدارة الذاتيّة في شمال شرق سوريا، غير أنه انسحب منه ليؤسّس مشروعه السياسي الخاص، والمتمثِّل في النضال من أجل القضيّة الكرديّة في سوريا، وباستقلاليّةٍ كاملة عن التبعيّة العقائديّة لأيّ حزب كرديّ آخر.
باعتقادنا، كانت الكاريزما القياديّة لكمال شاهين من الأسباب التي أدَّت في اغتياله من قبل ثلاثة مسلّحين تسلّلوا إلى مقرّ الحزب فجرًا وأردوه قتيلاً في فناء المقرّ الشاسع. ألقت قوات الأمن الكرديّة القبض على القتلة، وتمَّت محاكمتهم دون تغطيةٍ إعلامية. تسرّبت إلينا شفاهًا مساءلة القاضي للجناة عن سبب اغتيالِهم لشخصيّةٍ ككمال شاهين، فكانت إجابتهم موحّدة بأنهم قتلوه لأنّه «خان الحزب». إذ يوجد لدى حزب العمّال الكردستانيّ عرف يعتمد سياسة داخليّة مطابقة لحكم الردّة، باصطفاء أعضائه المؤثّرين سياسيًّا لتصفيَتهم حينما يقرّرون الخروج عن عباءة الحزب، فلا تشفع لهم تضحيتهم بأهمِّ سنوات عمرهم لخدمته. ويعاقَب أعضاءٌ أقلُّ تأثيرًا بآليّاتٍ أخرى كرفض تَوبتهم مثلًا، وهو شيءٌ مبرَّرٌ في حزبٍ يخشى الاختراقات الأمنيّة لصفوفه، فيما لا يكلَّل الاغتيال سوى بالعار على الضحيّة. وقد انشقّ عن حزب العمال شريك كمال شاهين في تأسيس حزب الوفاق فوزي شنگالي وآخرون، كلُّهم مرشحَّون محتملون للموت غيلةً.
رفض كمال شاهين عرض الحماية الذي قدّمه له الرئيس العراقي جلال طالباني، قائلاً بأنه أفنى عمره مقاتلًا ولا يريد أن يحرسه أحد، وكاشفًا للمقرّبين منه التالي: «أعرّف رفاقي في هذا الحزب أن قرار تصفيتي قد اتُّخِذ، وسينفَّذ بتوفّر الحماية أو بدونها».
ينطوي تاريخ الحركة التحرّرية الكرديّة على تصفياتٍ داخليّة بشعة، ويستمرُّ تجنُّب الخوض فيها، نظرًا لقدرة الأحزاب الكرديَّة الكبرى على استهداف من يتناول الملفَّات المكتومة لتاريخ هذه الأحزاب. فالحركة التحرُّريّة الكرديّة، على غرار حركات التحرُّر المماثلة، ليست سوى حركات نضاليّة للتخلُّص من نظامٍ ما وليس لقطع الصلة معه بتقديم بديلٍ ديموقراطيّ. كما أنَّ معظم الأحزاب الكرديّة مناهضة للديموقراطيّة لدرجة التعارض معها، وأحد أوجه التعارض تقديسُها للزعماء. إذ ثمَّة ما يشبه التحريم لظهور قادة منافسين للقائد الأوحد ولأي خروجٍ عن سراطه. وفي هذا السياق يأتي قرار اغتيال كمال شاهين.
تمتّع شاهين بخصالٍ قياديّة كافية لقيادة الشعب الكردي في سوريا باستقلاليّة وشفافيّة أقرب إلى المثال مقارنةً بما هو قائم. كان رجلًا يصغي باستمرار، يعرف بحنكة المتأمّل ما يجب قوله دون استفاضة، ويستشير رفاقه وكلَّ من يثق بكفاءته لترتيب مشروعه السياسيّ. رفض شاهين فكرة الزعامة، وطلَبَ المشورة لتُكرَّس القضية الكرديّة في سوريا كمشروع سياسي ينطلق من دمقرطة سوريا. كانت قيَمُه السياسية والأخلاقية مكشوفةً بشجاعةٍ وتفانٍ، وهي ميزة لم تتوفَّر في غيره، كون المساومة على المبادئ لم تعد عيبًا إن جاءت لصالح المنفعة الخاصّة بكيانٍ سياسي، وإن تعارض ذلك مع الخير العام.
برز اسم الدكتور محمد معشوق الخزنوي في سوريا كعالم دينٍ إصلاحي. كان الخزنوي منحدرًا من الطريقة النقشبندية لعائلته، لكنّه انقلب ضدّها بناءً على تصوّره المناهض لفكرة الوساطة المؤسّساتية بين الله وعباده. كان فقيهًا في علوم الدين واللغة، مطّلعًا على العلوم الإنسانيّة الحديثة، مطعّمًا إحداها بالأخرى كمنهجيّةٍ فعّالة لتحديث القيم الدينية وتحويلها إلى ممارساتٍ يوميّة. كان بليغ الحجّة وخطيبًا بارعًا في البرهنة بالنصوص الدينيّة على القضايا المعاصرة، منها مسؤوليّة الدفاع عن الحقوق التي وهبها الله للإنسان والتي «لا يتصدّق بها أحد، بل تؤخذ بالقوة»، وكذلك مطالبته باتِّخاذ العقل مرجعًا للتقرُّب من الله دون وساطة رجال الدين، وهي الفئة التي أنكر وجودها في الإسلام ووجد فيها مجرّد أدوات لتسييس المشاعر الدينيّة وتغييب الفكر السليم لدى الناس. عمل الخزنوي على تحرير الدين الإسلامي من جهل التديّن، رافضًا التكفير بين المذاهب، قائلاً إن التنابذ المذهبيّ ليس له تعليل ديني وإنما هو بمثابة عمليّة تحكّم سياسي.[12] رفض الفصل بين الدينيّ والسياسيّ طالما أنَّهما يسعيان إلى الخير العام، فتبنّى فكرة الأخوّة الكرديّة العربيّة والتعدّديّة الدينيّة جوهرًا للمواطنة السوريّة المنتهَكة. كما كان من القلائل الذين وجدوا توافقًا بين العلمانيّة والإسلام، وشرح ذلك في برنامجه التلفزيونيّ المذاع على قناة كردستان، وهو مصيب في ذلك كونه فهم الأمرَين بنزاهة.
دخل الشيخ الخزنوي المعترَك السياسي للدفاع عن حقوق الشعب الكرديّ في سوريا، وجاهر علانيّةً بما لم يسبق لأيّ سياسيّ كرديّ المطالبة به، ألا وهو أخذ الحقّ بالقوّة. فبعد الانتفاضة الكردية ضدّ نظام البعث السوري عام 2004، التي أفضت إلى مقتل الكثير من الشباب الكرد – من ضمنهم فرهاد محمد الذي قتل تحت التعذيب فتحوّل مأتمُه إلى منصّة لتصعيد النضال ضدّ النظام السوري حتى المواجهة – ألقى الخزنوي خطابًا بليغًا وشجاعًا، واستعان بالدين للدفاع عن الحقّ السياسيّ، مطالبًا بعدم نسيان الشهداء وتحويل دمائهم إلى سلاح. ومن أقواله: «إن أمّة ميتة يحييها رجل».
شارك معشوق الخزنوي مع محمد حبش في تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في دمشق، والذي تمَّ إغلاقه سنة 2009. وقد كان مسارهما الفكريّ مرتكزًا على محاربة الجهل بين المتديّنين، الأمر الذي نظر إليه نظام البعث السوري بمثابة تقويض لإحدى أهمِّ آليّات التحكم بالناس، ألا وهي ثنائية الجهل والمشايخ. وهذا ما كشفه محمد حبش في لقاءٍ تلفزيونيّ، حول المحادثة التي دارت بين نجل الشيخ معشوق وضابط الأمن الذي حضر لاعتقاله مرّة، حينما قال الخزنوي لعنصر الأمن بأنه يعمل فقط على تنوير الناس بالمعرفة، ليجيبه الضابط قائلاً إن هذا بالتحديد ما يجب أن يتوقّف عنه.
تحوّل ما تقدّم إلى سببٍ جوهري لاتخاذ قرار تصفية معشوق الخزنوي. وقد تسرّب عن اجتماعٍ أمنيّ في محافظة الحسكة بتاريخ 8 أيار/مايو 2005، تقرير ذكِر فيه التالي: «معشوق الخزنوي أصبح ظاهرةً مقلقة ويجب التخلص منه»! كان حينها الخزنوي قد عاد من جولةٍ أوروبيّة لإلقاء محاضرات حول الإصلاح والحقوق السياسيّة للشعب الكرديّ. وفي 10 أيار/مايو 2005، دخلت مجموعة أمنيّة من خمسة عناصر واختطفوا الخزنوي من مكتبه في مركز الدراسات بساحة الميسات بدمشق. اندلعت إثر ذلك مظاهرات في دمشق وغيرها من المدن السوريّة، ممّا دفع بالنظام السوري إلى فبركة سيناريو بمنتهى السذاجة أذيع في برنامج تلفزيونيّ في 2 يونيو/حزيران 2005، مفادُه أن جماعة إجراميّة قامت باختطاف الخزنوي بتكليفٍ من شخص اسمه «عبد الرزاق»، دون ذكر أيّة تفاصيل عن الآمر بالخطف.
وقد وثّق مركز توثيق الانتهاكات شهادة طبيب في المشفى العسكري في دمشق، بخصوص تعرّفه على هوية المعتقل الذي سُجّلت إضبارته برقم خاصّ وليس باسمه الشخصي، والذي أخذته السلطات الأمنية إلى المشفى لتخرجه منها على عجل.
عمّت المظاهرات معظم المناطق الكردية والعاصمة دمشق، وتحوّلت جنازة معشوق الخزنوي إلى انتفاضة جديدة أكثر زخمًا من عام 2004. فاجتمع رئيس مكتب الأمن القوميّ في القصر الجمهوري هشام اختيار بقادة الأحزاب الكرديّة وأخبرهم بالتالي: «إن لم تطلبوا من الناس العودة إلى بيوتهم فإنّنا سنفعل بكم ما فعلناه بمدينة حماه عام 1982».
وتوقفت الأمور عند هذا الحدّ.
أسّس مشعل تمّو حزبًا سياسيًّا سوريا منفتحًا على المواطنة المتجاوزة للانتماء القومي، مرتكزًا على ضرورة توحيد نضال السوريّين كردًا وعربًا لتكريس المواطنة كأساسٍ للحقّ في تغيير النظام ودمقرطة سوريا. وللحصول على الحقوق الكرديّة كحق سوريّ عام، يجب تحرير جميع القوميّات في سوريا من تخندقها الإثنيّ والالتقاء في المواطنة، ليكون بذلك تجسيرًا للإثنيّات في الخطاب السياسيّ الوطنيّ في سوريا. هكذا يُمكن تقويض سياسات نظام البعث القائم على تفكيك الناس إلى وحدات إداريّة متعارضة تجنّبًا لظهور أيّ شكل من أشكال التضامن الوطنيّ بين الناس، فتبقى القضايا الجزئيّة محصورة بالجماعة الأهلية المقموعة دون أن تتحوّل إلى سؤالٍ وطنيّ عام. انطلاقًا من هذه الرؤية، أسّس تمّو سنة 2005 «حزب المستقبل» وفقًا لمبادئ سياسيّة صريحة، وبدأ بتحويل الشارع والمناسبات الاجتماعيّة إلى منصّاتٍ للرأي السياسيّ، متّهمًا الحركة الكرديّة في سوريا بالتخاذل عن الاستجابة لمطالب الشارع الكرديّ والسوريّ في عمومه، ومناديًا بالحقّ في التحرّر من الجلّادين وتغيير الحكم في سوريا. جاء ذلك بعد حدثَين أساسيَّين في المناطق الكرديّة في سوريا، وهما انتفاضة 2004 واغتيال معشوق الخزنوي 2005، والذي كانت جنازته، كما ذكرنا، تجديدًا للمقاومة الداخليّة ضدّ نظام البعث. أتت خطابات تمّو كتصعيدٍ كبير للمواجهة السياسيّة مع نظام البعث وعدم الخوف مجدّدًا. وسرعان ما تضاعفت جماهيريّته كقياديّ سوريّ ومن ثمَّ كرديّ، واعتُبر أوَّل قياديّ كرديّ يرى فيه بقيّة السوريين ممثِّلاً لمطالب غير فئويّة.
اعتُقل تمّو سنة 2008 وحُكم عليه بالسجن سنة 2009 لمدّة ثلاث سنوات، ليفرَج عنه بداية يونيو/حزيران عام 2011، أي بعد ثلاثة أشهر من بدء الاحتجاجات الشعبيّة في سوريا. فقد ظنّ النظام أنّ ذلك قد يساهم في تهدئة الشارع الكردي، غير أنّ خروجه زاد في غليان الشارع السوريّ الباحث عن قادة يقودون ثورتهم بشجاعة ونزاهة، فوقع النظام في الضدّ، حيث ساهمت تجربة السجن وتوقيت الإفراج عنه في مضاعفة الأمل والشجاعة لتغيير النظام. رفض تمّو عرض النظام بالتفاوض، قائلاً إنَّه لن يجلس مع القتلة للمساومة على دماء أبناء الشعب السوري، كردًا وعربًا.
نشرت قناة العربيّة الوثائق المسرّبة التي تظهر كيف أمر الرئيس السوريّ بشار الأسد باغتيال مشعل تمّو. حيث تعرّض في 8 أيلول/سبتمبر 2011 لمحاولة اغتيالٍ نجا منها، قبل أن يُغتالَ في منزله في مدينة القامشلي الذي اقتحمه مسلَّحون وأطلقوا النار على مشعل وعائلته وأصدقائه في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2011.
ثمّة مشتركان على الأقلّ، بين الاغتيالات الثلاثة، يضعان القيادات الكردية المغتالة في قائمة «ضرورة التصفية»: أوَّلًا، تبنّيها لمشروع سياسيّ إصلاحيّ يتعارض بشكل جذريّ مع المنظومة الاستبداديّة القائمة. ثانيًا، قدرة هذه الشخصيات على تحريك الركود الاجتماعيّ وإشراك الجماعات الأهليّة في الحياة السياسيّة كفاعل جوهريٍّ في بناء السلطة السياسيّة. وبالتالي، قدرتُها على إنتاج شعب لا يتخندق في الولاء العقائديّ بمختلف تسمياته.
لذلك، يفضي اغتيال المؤسِّسين للمشروع الديموقراطيِّ إلى تقويض إمكانية تغيير النظام القائم، لتبقى الخيارات محصورة دائما بثمار العنف: الانقلابات والاغتيال، وإدامة القمع تحت أسماء جديدة.
[2] أنطونيو كاسيزي ، القانون الجنائي الدولي، جامعة إكسفورد. الطبعة العربية، ترجمة مكتبة صادر، بيروت 2015. ص10.
[3] المرجع السابق، جزئية "إنشاء محاكم ذات طابع دولي أو مختلطة"، ص478.
[4] محاسب ضرائب روسي ساهم في كشف عمليات فساد ضخمة قام بها موظفو الضرائب لدى الحكومة الفيدرالية، الأمر الذي تسبّب في اعتقاله سنة 2008، ليتوفى جراء التعذيب في السجن بعد 11 شهرا من اعتقاله دون محاكمة. فأصدر الرئيس الأمريكي أوباما قانونا باسم ماغنتيسكي سنة 2012.
[5] برنارد لويس، الحشاشون/ فرقة ثورية في تاريخ الإسلام. ترجمة: محمد العرب موسى. مكتبة مدبولي، القاهرة. الطبعة الثانية، 2006، ص14.[6] فرانسوا مافال، أساسيات التعصب، ترجمة قاسم المقداد، دار نينوى للنشر، دمشق 2017، ص86.
[8] أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة، ترجمة أورخان علي وعوني لطفي أوغلي، إصدارات وقف البحوث العثمانية. استنبول 2008، ص131.
[10] فرانسوا مافال. مصدر مذكور، ص83.
[11] هادي العليوي، الاغتيال السياسي في الإسلام، الطبعة الخامسة، دار المدى، دمشق 1999، ص 7/8.
[12] حذفت قناة العالم الإيرانية مقابلتها مع معشوق الخزنوي بعد اغتياله، 2005.