SHARE
عَوْدٌ على بَدْء
رحلةٌ إلى المَوت
تقريرٌ نُشِرَ في مجلة دير شبيغل الألمانية، في 28 كانون الثاني 2023، قُبيل الذكرى الثانية لاغتيال لقمان سليم
٣ حزيران، ٢٠٢٣
مطبوعة تصدر عن أمم للتوثيق والأبحاث

-«مَن قـتـلَ لقمان سليم؟» 

-«إنه حـزب الله!» هكذا ردَّتْ أرملةُ الرجل المعارض الذي قُـتل قبل عامين، والتي تُحارِب من أجل العدالة في مواجهة الميليشيا القوية. 

ربما لم يُـلاحظ لقمان السيارات التي استمرتْ في ملاحقته قرابةَ الساعتين على مدى نصف البلاد. ربما لم يكن الأمر ذا أهميةٍ بالنسبة إليه، حتى بعد سنواتٍ طويلة من التهديد بالقتل. لقد نجَا من كُلِّ هذه التهديدات. حتى جرى ما جرى. 

ظُهر الثالث من شباط ٢٠٢١، عندما وصلَ لقمان سليم إلى منـزل أحد أصدقائه في قرية نيحا، كان قد بَـقِـيَ لديه بالكاد ثمان ساعاتٍ لـيَعيشها. تـناول وجبة هادئة، بين صحبة لطيفة، وكان مرتاحًا لدرجة تُـهيِّـؤه لأخذ قيلولةٍ على الصوفا عند الساعة السادسة، حيث لم يَـبقَ سوى ثلاث ساعات ونصف. 

أثار مقتـلُه قبل عامين غضبًا دولـيًّا، فأدانت الحكوماتُ الأميركية والفرنسية وجامعة الدول العربية هذا «الفعل الهمَـجي» ودعتْ إلى محاسبة المسؤول عنه. لكن حتى الآن لم يتم اعتـقال أيِّ أحدٍ على الإطلاق أو حتى تم تحديده، على الرغم من أن قتـلةَ سليم فعلوا كلَّ شيء عدا أن يكونوا مُتخفِّـيِـين. لقد طاردتْ خمسُ سياراتٍ سليم، وراقبَ ركابها المنـزل الذي كان فيه، وقفت لساعاتٍ في جواره، وانتـظرتْ خروجه من جديد.

الأمر المُروِّع في القضية، هو أن هناك الكثير من التـفاصيل ومقاطع الفيديو والبيانات المَعروفة، إلا أن التحقيقَ رغم ذلك يدور في دائرةٍ مُفرغة؛ هناك حيث تُمس مصالح ومناطق سيطرة حزب الله.

الاسم يعني حزب الإلـه: يتغذى من ادعائه القدرة المطلقة، كـمُنـفِّذٍ للإرادة الإلهية بالوصاية على شيعة لبنان، وبالتسامح مع الدولة، طالما أنها لا تتدخل في شؤونه. 

رغم انسحاب إسرائيل من المناطق المُحتـلة في جنوب لبنان في عام ٢٠٠٠، إلا أن حزبَ الله ادعى أنه مستمر في قتالها. كما لو أنه بحاجةٍ إلى حالة الحرب لـتُعطيه شرعيةً عامةً تسمح له بإحكام سيطرته على المجتمع، بل تصل إلى حدود القمع، حتى لو قاد واقع الحرب إلى هجومٍ مُدمر كالذي حصل عام ٢٠٠٦ وأحدث خرابًا ودمارًا: هذا ما كان سليم يتـهم به هذا الحزب. 

المؤكدُ هنا أن عدمَ إغلاق هذا الملف بصمت، كما هي حال جميع ملفات الاغتـيال في لبنان، يعود إلى مُـثابرة أرملة لقمان سليم الألمانية، مُنـتـجة الأفلام، مونيكا بورغمان، وأخته رشا الأمير التي تدير الآن بمفردها دار النشر الخاصة بالعائلة. 

-«ربما اعتـقدوا أن بإمكانهم إرهابـنا وأننا سوف نترك البلاد» تقول بورغمان في منـزلها في حارة حريك حيث عاشت وسليم. 

«لكننا لم نفعل ذلك» تُكـمِل. 

-لكن مَن هم؟ 

-«واضح تمامًا.. هم أعضاء حزب الله». «لكن هذا ليس كافيًا، أريد إجراءات، أريد العدالة». 

لربما كان ما تريده مونيكا من العدالة وإجراءاتها أمرًا ميئوسًا منه بالنظر إلى تاريخ لبنان، وما حواه من جرائم قتل صحافيين وكتاب ورجال دين وسياسـيِّين كبار، كرئيس جمهورية، ورئيس وزراء. والتي رغم اقترابها من المائـتي جريمةٍ منذ الستينات إلا أن أيًّـا منها لم يُـبـت فيه بـحُكم أو سواه. 

لكن هذا لم يمنع لقمان سليم من أن يكونَ صوت التحدي السلمي في وجه حزب الله، بالكلمات، والإنتاج المسرحي، والإعلام. لقد تحركَ هذا الصوتُ في معقلهم، حيث عاش سليلُ العائلة الشيعية العتيقة في الحديقة المَوروثة المُسوَّرة في جنوب بيروت.

عند البوابة، رجلان من حزب الله، وعلى علو ثلاثة أمتار كاميرا المراقبة الخاصة بهم.

«نحن تحت حراسةٍ جيدة». هكذا كان سليم يَسخر إذا سأله أحدٌ ما عن هذه الإجراءات. 

لكن في كانون الأول من العام ٢٠١٩، عندما نُثـرَت على الأسوار الخارجية لمنـزله ملصقاتُ تهديد، مثل: «لقمان الخائن» أو «المجد لكاتم الصوت» أجاب ببيانٍ تنبـؤي بأن كل ما يُصيبه أو يصيب عائلته من مكروه فإنَّ حسن نصر الله زعيم حزب الله، مسؤولًا عنه، وكذلك نبيه بري زعيم حركة أمل الحليفة، والذي يعمل [في أوقات فراغه] رئيسًا للبرلمان. على أن تـجرؤ أحد البارزين من بيت الإيمان ذاته [أي من الطائفة الشيعية] على انتـقاد الزعماء الشيعة، كان خيانةً في نظر هؤلاء. 

حَـذرتِ السفارةُ الأميركية في بيروت سليم، بأنه في خطر حقيقي، وأنه يجب أن يغادر البلاد، لكنه لم يكن يريد الذهاب للعيش في المنـفى. 

وفي عرضٍ للتحقيقات المُجمَّعة من عدة جزئيات مُتـناثرة ومن جهاتٍ مختلفة حول رحلة سليم الأخيرة، تظـهر صورةٌ واضحة لفرقة قتلٍ عسكرية محترفة ومنظمة للغاية.

في ٣ شباط، انتـقلَ سليم على متن سيارة «تويوتا كورولا» نحو الجنوب. كاميرات المراقبة الخاصة بمحطات الوقود، بالمتاجر، وبالمنازل الخاصة، وتحليل بيانات الهاتف، وتطبيق «صحتي» على هاتف سليم ــ يقودون إلى رسم صورةٍ دقيقة وواضحة لما حدث بعد ذلك: 

عند الساعة الثانية عشرة وست دقائق: تظهر «تويوتا» لقمان سليم لأول مرة في منطقة خلدة على الكاميرا، وتتبعها سيارات «تويوتا كامري»، و«مرسيدس» و«أودي Q٥»، وتم رصدُ هذه السيارات عدة مرات في النصف ساعة اللاحـقة. 

عند الساعة الثانية عشرة واثـنين وأربعين دقيقة: تظهر في خلدة سيارة «إنفينتي SUV» وخلفها «نيسان باثفايندر». وستُرصَدَان مرة أخرى عند المساء على مقربة من سليم. 

عند الساعة الثانية عشرة وأربع وأربعين دقيقة: عبر رقمين هاتفـيَّـين، لم يُستخدمَا قبلُ ولم يُستخدمَا بعدُ، يُنـسِّق السائـقون بين بعضهم. رسالة نَصية من الرقم الأول: «اتصل بي يا شريك». 

عند الساعة الواحدة ظهرًا: من رقم الهاتف الثاني: «أين أنت؟». مرة أخرى، الأحاديث مُتجانِسة. 

عند الساعة الواحدة والنصف وأربع دقائق: وصول سليم إلى قرية نيحا. تقف سيارة الـ «مرسيدس» المُطارِدة لسليم في مكان قريب، ومن المحتمل أن تفعل السيارات الأخرى ذلك أيضًا. 

عند الساعة الثالثة وإحدى عشرة دقيقة: رُصدَت الـ «تويوتا كامري» في خلدة على طريق العودة من الجنوب.

عند الساعة الخامسة وأربع دقائق: رُصدَت سيارة الـ «مرسيدس» في خلدة على طريق العودة وضاع أثرها هناك. 

عند الساعة السادسة وإحدى عشرة دقيقة: تظهر الـ «أودي Q٥» في قرية مجاورة لقرية نيحا.

عند الساعة الثامنة وست وثلاثين دقيقة: يغادر سليم، فتلحقه بعد أقل من دقيقةٍ الـ «إنفيـنتي SUV». يظن المحقـقُ أن «النيسان الباثفايندر» قد أقفلت الطريق الضيق البعيد عن المنـزل بحوالي ٤٠٠ متر. هناك سوف يتم لاحقًا إيجاد نظارات سليم بعد عدة ساعات، وأبعد منها بقليل هاتفه المحمول. 

عند الساعة الثامنة وثمان وثلاثين دقيقة: يُسجِّل تطبيق «صحتي» على هاتف لقمان ٨٢ خطوة، وقرابة ٦٠ متـرًا. هل هي آخر محاولةٍ للهرب؟ رصاصة في منتصف الظهر بالضبط، تتسبَّب له بالنـزيف الداخلي، وما يثبت أن سليم كان لا يزال على قيد الحياة هو الخدوش على الركبة ووجود تَورُّمٍ دمويٍّ في قدمه اليسرى ما يُـشيـر إلى أنه سقَط، وتم تـثبيـته بعُنـف. 

عند الساعة الثامنة وأربعين دقيقة: لُوحِـظَت الــ«نيسان باثفايندر» في الجوار، على الطريق السريع. ويظن المحققون أن سليم المختطف كان بداخلها. 

عند الساعة الثامنة وواحد وأربعين دقيقة: تغادر سيارة الـ «إنفيـنتي SUV» في الاتجاه نفسه الذي سلكه الـ «باثفايندر»، متبوعةً من «تويوتا» سليم. 

عند الساعة الثامنة وست وخمسين دقيقة: تغادر سيارة الـ«أودي Q٥»، وبعد دقائق رُصدَت هذه السيارات التي كانت تُطارد سليم مرارًا في اتجاه بيروت. 

عند الساعة التاسعة وأربعة عشرة دقيقة: تُـغادر الـ«نيسان باثفايندر» الطريق السريع أعلى البيسارية، وتصل إلى نفقٍ صغير، وتتواجد فيه كذلك سيارة سليم. في الدقائق اللاحقة، سوف يُطلق الجـناة على لقمان سليم خمس رصاصاتٍ في الرأس من مكانٍ قريب: إعدام. 

عند التاسعة وتسعة عشرة دقيقة: تُغادر «تويوتا» سليم والـ«نيسان باثفايندر» النفق إلى شارع صغير مُوازٍ للطريق السريع، نحو النقطة التي وُجدَت فيها سيارة وجثة سليم في الصباح التالي. 

رُصدَت السيارات التي قامت بمُطاردة وخطف سليم وقتله لاحقًا ناحية الجنوب الشرقي، ضمن نطاق سيطرة حزب الله وستختـفي دون أيِّ أثر.

تبلغ المسافة بين موقع الاختطاف والشارع المُحاذي للطريق السريع، حيث وجدت سيارة سليم في اليوم التالي، ٣٦ كيلو متر. نصف هذه الطريق قُـرى مأهولة بالسكان بكثافة، وجميع لوحات السيارات المُطارِدة والخاطفة لسليم معروفة، مُرخَّصة وحقيقية. 

معظم هذه التفاصيل جمعَـتها استخبارات قوى الأمن الداخلي [أي فرع المعلومات] الذي يتمـتع بسمعةٍ طيبة كونه أكثر استقلاليةً في العمل تحت الضغط السياسي بالمقارنة مع استخبارات الجيش أو أمن الدولة. 

لكن جهود بحث [فرع المعلومات] كانت تتوقف عندما تقتـرب من تحديد الجناة: أين بدأتْ رحلةُ سيارات المُطاردة وأين انتهت؟ ألم يكن هناك كاميرات في المكان؟ إذا كانت تسجيلات الفيديو التي تُظهر السيارات كلها موجودة فلماذا لا تُظهر وجوه ركابها؟ لماذا تم استجواب زوجة سليم، وأصدقائه المقربين دون سكان المنطقة [هناك حيث وقعت الجريمة]؟ لماذا لم يتم إقـفال الطريق إلى مسرح الجريمة حيث تم العثور على سيارة سليم؟ ولماذا لم يتم منع المتطفلين من لمس السيارة وطمس كل الآثار؟ 

«عندما يُصر المرء على تكرار السؤال، سوف يأتي في لحظةٍ ما صمتٌ حزين» يُلخِّـص موسى خوري، محامي مونيكا بورغمان، الأشهر الماضية. ويتابع «ثم سيأتيك السؤال: هل تريدون المخاطرة بحربٍ أهلية جديدة؟»

صباح ٤ شباط الذي عُثِـر فيه على جثة سليم، لم يلتـزمْ نجلُ الأمين العام لحزب الله الصمتَ بشكلٍ تام. فعند إعلان التلفزيونات نبأ جريمة القتل غَـرَّدَ جواد نصر الله: «خسارة البعض هي في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب» ثم ألحقها بوسم #بلا_أسف. أزال جواد التغريدة لاحقًا مُعلنًا أنه لم يكن يقصد سليم. أما والده، زعيم حزب الله، حسن نصر الله، فلم يَـنـفِ أبدًا المسؤولية عن مقتل سليم، بل عوضًا عن ذلك اشتكى مُحتَـجًّا في إحدى الخطابات التلفزيونية أن: «أي حادثة تقع في منطقـتك فأنت المُدان حتى تثبت العكس». وعندما طلب مُحقِّـقو الأمن الداخلي من حزب الله أن يُعطيهم تسجيلات كاميرات المراقبة، رفض ذلك. 

في أثناء التحقيقات طُرحَت أسئلة على مونيكا بورغمان كـان منها: «هل كان زوجها على علاقةٍ غرامية بأحد ما؟ أو هل انـتحر؟» «لكنهم لم يسألوا عن ما هو  أكثر وضوحًا» تَحكي لنا بورغمان في غرفة عمل داخل دارة العائلة. وتُـكمل بأن سؤالًا ما زال يُـعـذِّبها: «ماذا كان سيحدث لو رافَقـته؟ كنت خائفةً حينها من كورونا، ولا أريد أن أجلس مع كل الأصدقاء في نيحا في غرفةٍ مغلقة. هل كنا سـنَموت كليـنا؟ أم أن ذلك كان سينقذه؟» 

كانت رسالتهما هي مواجهة القمع والتستر الأبديِّ على الجرائم من خلال إحياء الذاكرة. وإبـراز إجاباتٍ لهذه الأسئلة المحورية: «منِ ارتكب الخطايا في الحرب الأهلية؟» «مَن هم القـتـلة؟» 

في العام ٢٠٠٥ اشتُـهر سليم وبورغمان على الصعيد العالمي من خلال الفيلم الوثائقي «مذبحة» الذي عرضاه في مهرجان «برليناريه Berlinale» ومهرجانات أخرى. لقد نجحوا في دفع ستةٍ من المتورطين في مجازر القتل الجماعي للفلسطينيين في صبرا وشاتيلا في العام ١٩٨٢ إلى التحدث. 

في غرفٍ صغيرة، تكـلَّم الرجالُ الذين لم تظهر وجوههم عن مدى العناء الذي أرهقهم باشتراكهم في هذه المجزرة، وأن «الجزار المحترف» فقط هو الذي استمتع بالقتل. 

وبالرجوع إلى تاريخ هذه المجزرة، فقد جرت بعد يومين منِ انسحاب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت الغربية، حينها انتـقل أفراد مليشيا القوات اللبنانية إلى المخيم الفلسطيني وقتلوا العُزل. تـخطَّى عدد الضحايا ٣٠٠٠ من النساء والأطفال وكبار السن. على أنَّ الجريمة قد جرت بغطاءٍ وغض نظر من القوات الإسرائيلية بقيادة أرييل شارون.

أنشأ سليم وبورغمان مؤسسة «أمَــم للتوثيق والأبحاث» في عقارٍ تملكه العائلة، وهي بمثابة أرشيف لـتاريخ لبنان الأعظم الذي يمكن الوصول إليه. هي "قارب نجاة" لكُتـيِّـبات وكتب الحرب الأهلية، ولفائف أفلام لأهم شركات الإنتاج في استوديو بعلبك، ولسجل فندق الكارلتون الأسطوري. بهذا يحقُّ القول أنهما أنـقذَا شهادات التاريخ اللبناني من مكبِّ النفايات.

في مشروعٍ توثيقيٍّ آخر، جمع الاثنان سجناء لبنانيين كانوا قد اعتُـقلوا في سجن تدمر سيء السُّـمعة في سوريا. أولًا في مسرحية، ثم في الفيلم الوثائقي «تـدمر» عام ٢٠١٦ حيث عرض السجناء فيه سنوات محنـتهم مرة أخرى، ولعبوا أدوار الضحايا والجلادين. 

الآن، ورغم الوحدة التي تـشعر بها مونيكا بعد لقمان، تقول: «في قلب كلِّ ما فعلناه، كانت هناك مسألة محاربة الإفلات من العقاب. أما الآن فأنا أستمر بذلك من دون لقمان، إنما من أجله، هذه حياتي، ليس عندي غيرها أبدًا».

لقد استغرقَ الأمر حوالي تسعة أشهر، من أجل أن تتمكن بورغمان ومُحاميها من نقل القضية من محكمةٍ محلية تابعة لمدينة صيدا في الجنوب إلى بيروت. انتـصارٌ بسيط. ومنذ ذلك الحين أضحت القضية عند قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، أكثر القضاة شجاعةً واستقامة، كما يُـقال في لبنان. 

في خميسٍ ما في كانون الثاني ٢٠٢٢، عقدت جلسةٌ تخصُّ قضية سليم. المبنى بأكمله مُغلق بسبب تظاهرةٍ عفوية. كانوا يُدخِّـنون في قاعة المحكمة، وكان هناك مَوقوفون مُقـيَّدو اليدَين يقفون في مواجهة الحائط، وعساكر ينتـظرون بين المحامين والزوار. تم تأجيلُ الجلسة ساعات، حتى ظهر أخيرًا أبو سمرا القاضي الوحيد الذي تواجد في المحكمة، بينما أضربَ القضاةُ الآخرون عن العمل بسبب راتبهم المُصاب بحمى التضخم، والذي بالكاد يسمح لهم أن يتوجهوا إلى العمل. 

جلس أبو سمرا المُدخِّن بشراهة على مكتبٍ بديل ينتـظر شهودًا من نيحا، إلا أنهم لم يأتوا. كان المحامي يسعى للحصول على عناوين الشهود، حيث كان من الواضح أن شرطة المخفر في الناحية لم ترغب بالتعاون مع القاضي أبو سمرا. لكن لماذا؟ يشرح القاضي المتعب: «هذا، سـر إجرائي». ولدى سؤاله: أليس من غير المألوف أن يتوقف البحث دائمًا عندما يصل إلى نقاطٍ حساسة. يجيب «كـلا». 

كما أن الدبلوماسيِّين لا ينصحون بالذهاب إلى المكان حيث وضعَ القتـلةُ جثةَ سليم، ويُعلِّـقون بسرعة: «لا تترك الطريق السريع!».

في ١٤ كانون الثاني ٢٠٢٢، وعلى بعد حوالي كيلو متر من المكان الذي وُجدَت فيه سيارة سليم، تم إطلاق النار على الجندي الإيرلندي في قوات اليونيفل شون روني. واليونيفل هي قوات الأمم المتحدة التي يجب عليها أن تحافظ على الهدنة الهَشة بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان. 

كان شون روني في طريقه إلى مطار بيروت، لكن مركبته انعطفتْ إلى الطريق الساحلي القديم فاستهدفَ مسلحون نافذة سائق السيارة المُدرَّعة، من ثم تمكنوا من فتح النافذة الخلفية وأطلقوا النار على روني من الخلف. هل كان هناك أي أمرٍ يجب أن لا يراه الجنود في تلك المنطقة؟ «حادث عرضي»، هكذا عَـلَّقَ حزب الله. 

كان لقمان سليم يؤمن بـ«يوتوبيا» غير مألوفةٍ حول إنهاء الهمجية في لبنان، ليس عن طريق الثورة «لأنه حتى لو كان هناك واحدة حقيقية فلن يكون هناك مِن مكسبٍ من ورائها». كان يؤمن بالحالة الطبيعية، على حد قوله «قبل كل شيء، أمر جيدٌ أن أجلس في سيارتي مساءً وأقودها صوب حيفا أو دمشق من أجل أن أشرب كأسًا من البيرة ثم أعود أدراجي».

لكنه وعلى حين غرةٍ وغَـدر، لم يَـعُـد أدراجه في بلاده! هل خَـمَّـنَ لقمان ما سيحدث يومًا ما؟ قال في أحد الأحاديث مرّة «لقد سألت نفسي دومًا: ما هي الصورة الأخيرة في رأس من سيُشـرع في قتله؟» لم تكن هناك إجابة، ولا ثـمةَ إجابة بين الأحياء.

 


SHARE